الفائدة المرتفعة وراء “الموجة الذهبية لأرباح البنوك”

لم تعد أسعار الفائدة مجرد أداة نقدية يتعامل بها البنك المركزي للسيطرة على التضخم أو جذب الاستثمارات، بل تحولت في مصر إلى “كلمة السر” وراء أرباح استثنائية حققتها البنوك الكبرى خلال 2023 و2024 ، والنصف الأول من 2025.
ورغم أن البنك المركزي ، هبط بأسعار الفائدة 5.25% خلال الشهور الثمانية الأولى من 2025، إلا أن آجال الودائع لم تصل لنهايتها، بجانب أن الفائدة لاتزال مرتفعة، إذ جاء الخفض بعد 3 سنوات من الرفع والتثبيت المستمر.
وفي ظل الزيادات المتتالية في سعر الفائدة الأساسي خلال 2022 ـ 2024، ارتفعت أرباح البنوك بمعدلات غير مسبوقة، حتى أن أرباح أكبر 10 بنوك مصرية تضاعفت لتتجاوز حاجز 420 مليار جنيه في عام 2024، مقابل 212 مليار في 2023، وهو رقم يوضح كيف أن الفائدة المرتفعة كانت بمثابة “موجة ذهبية” اجتاحت القطاع المصرفي بأكمله.
هذا الواقع يطرح تساؤلات جوهرية: من المستفيد الحقيقي من هذه السياسة؟ وما انعكاساتها على الاقتصاد والمجتمع؟.
كيف تصنع الفائدة المرتفعة أرباح البنوك؟
تعتمد البنوك في ربحيتها بالأساس على “هامش الفائدة الصافي” أو Net Interest Margin، وهو الفارق بين ما تدفعه البنوك للمودعين على ودائعهم، وما تحصل عليه من المقترضين أو من استثماراتها في أدوات الدين الحكومية.
مع كل قرار برفع الفائدة، تتسع هذه الهوامش لصالح البنوك، خاصة تلك التي تمتلك قاعدة ضخمة من الودائع. فهي تدفع فائدة على الودائع، لكن العائد الذي تحصل عليه من أدوات الدين أو القروض يرتفع بوتيرة أسرع، ما يترجم إلى زيادة مباشرة في صافي دخل الفوائد (Net Interest Income – NII).
البنك الأهلي المصري
كشف البنك الأهلي المصري، وهو أكبر البنوك في السوق من حيث الأصول والودائع، عن قفزة قياسية في الأرباح.
ففي النصف الأول من 2024، بلغ صافي أرباح البنك نحو 70.6 مليار جنيه، مقارنة بمستويات أقل كثيرًا في الفترة نفسها من العام السابق.
كما ارتفعت محفظة استثماراته في السندات وأذون الخزانة إلى أكثر من 1.6 تريليون جنيه، ما يعكس اعتماده الكبير على أدوات الدين الحكومية.
هذا التوسع في استثمار الودائع لدى الحكومة يضمن للبنك عائدًا شبه خالٍ من المخاطر، خصوصًا مع مستويات الفائدة المرتفعة. وبذلك يصبح البنك الأهلي المستفيد الأكبر من هذه السياسة، بينما يبقى دوره في تمويل المشروعات الإنتاجية محدودًا نسبيًا.
بنك مصر
بنك مصر، هو ثاني أكبر البنوك الحكومية، وقد سجل أيضًا قفزات ضخمة. وارتفع صافي أرباح البنك بنسبة تقارب 54% خلال عام 2024، ليصل إلى 81.3 مليار جنيه، مقارنة بـ52.8 مليار جنيه في عام 2023.
وأظهرت المؤشرات المالية نمو إجمالي المركز المالي للبنك بنسبة 41% خلال العام الماضي، ليبلغ 3.6 تريليون جنيه بنهاية ديسمبر 2024، مقابل 2.5 تريليون جنيه في 2023، متخطياً حاجز 4 تريليونات جنيه بنهاية أغسطس 2025.
أشارت بيانات البنك، إلى نمو صافي الدخل من الفوائد وارتفاع محفظة القروض والاستثمارات الحكومية، ما يعكس استفادته المباشرة من بيئة الفائدة المرتفعة. وهنا يتكرر نفس النمط: أرباح استثنائية معتمد معظمها على فارق الفوائد وليس على توسع كبير في النشاط الائتماني للقطاع الخاص.
بنكا القاهرة والكويت الوطني
حقق بنك القاهرة 7.4 مليار جنيه صافي ربح بعد الضريبة للنصف الأول 2025، في حين حقق بنك الكويت الوطني 4.1 مليار جنيه بنسبة نمو 30 %.
البنك التجاري الدولي CIB
يقدم البنك التجاري الدولي (CIB)، أكبر البنوك الخاصة في مصر وأكثرها جاذبية للمستثمرين الأجانب، نموذجًا أوضح على علاقة الفائدة المرتفعة بالربحية.
ففي النصف الأول من عام 2025، ارتفع صافي الربح بنسبة 21% على أساس سنوي، مسجلًا 33.3 مليار جنيه، في حين نمت الإيرادات بنسبة 18% لتصل إلى 54.9 مليار جنيه.
والأهم أن صافي دخل الفوائد (NII) قفز إلى 51.3 مليار جنيه مقابل 41.5 مليار فقط في النصف الأول 2024.
هذا النمو يعكس بشكل مباشر استفادة البنك من زيادة الفوائد على القروض والاستثمارات الحكومية، في حين أن القطاعات الإنتاجية تأثرت بارتفاع تكلفة الاقتراض، فإن “CIB” بحكم خبرته وسيطرته على شريحة واسعة من السوق، استطاع تحويل بيئة الفائدة المرتفعة إلى مكسب خالص.
QNB الأهلي .. توسع مدفوع بالفائدة
سجل بنك QNB الأهلي (التابع لمجموعة قطر الوطني) نموًا لافتًا. ففي الربع الثاني من 2025، حقق صافي أرباح بلغ 15.1 مليار جنيه، بزيادة تقارب 10% مقارنة بالعام الماضي.
وأعلن البنك أن صافي دخل الفوائد ارتفع بنسبة 18%، وهو ما يوضح أن معظم نموه جاء من الاستفادة من الفائدة المرتفعة.
ورغم أن البنك توسع في منح قروض للشركات والأفراد، إلا أن القفزة في صافي دخل الفوائد ، هي التي شكّلت العنصر الأبرز في ربحية الربع.
باقي اللاعبين في السوق
حققت البنوك الأصغر حجمًا نسبيًا مثل الأهلي الكويتي – مصر (ABK) قفزات كبيرة؛ إذ سجل البنك صافي أرباح في 2024 بلغ حوالي 6.6 مليار جنيه، بدعم واضح من ارتفاع عوائد الأصول ذات الدخل الثابت.
من الخاسر في المعادلة؟
بينما تحقق البنوك هذه المكاسب، هناك أطراف أخرى تتحمل التكلفة: فالقطاع الخاص، هو أبرز الخاسرين، إذ إن ارتفاع تكلفة الاقتراض أدى إلى تجميد كثير من خطط التوسع لدى الشركات، خاصة الصغيرة والمتوسطة.
وياتي في القائمة، الأفراد باعتبار أن أقساط القروض الشخصية والعقارية ارتفعت بشكل يفوق قدرات كثيرين، ما زاد الضغوط على الطبقة الوسطى.
أيضا تخسر الحكومة .. فرغم استفادتها المؤقتة من تدفق السيولة عبر البنوك، إلا أن خدمة الدين أصبحت أكثر تكلفة، ما استنزف جزءًا كبيرًا من الموازنة.
لماذا تظل البنوك المستفيد الأول؟
تجاوز حجم الودائع في الجهاز المصرفي المصري نحو 10 تريليونات جنيه، ما يمنح البنوك قوة ضخمة للاستثمار.
والاستثمار في أذون الخزانة يحقق عوائد مرتفعة بأقل قدر من المخاطر.
كما أن هيمنة البنوك الكبرى ومنها الأهلي، ومصر،و CIB، وQNB على أكثر من نصف السوق، يمنحها أفضلية واضحة.
البدائل
يقترح الخبراء حلولًا لتحقيق توازن أكبر، مثل خفض تدريجي للفائدة بعد استقرار التضخم، وتقديم حوافز للبنوك لزيادة تمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة.
أيضا تقليل اعتماد البنوك على الدين الحكومي عبر إصلاحات هيكلية في الموازنة، كذلك تطوير أدوات تمويلية بديلة (صناديق استثمار، وسندات شركات) لتقليل هيمنة البنوك
أصول البنوك المقومة بالعملة الأجنبية
قال أحمد شوقي، الخبير المصرفي، إن البنوك سجلت قفزة استثنائية في أرباحها خلال الفترة الماضية، بفضل تراجع سعر الصرف الذي انعكس على إعادة تقييم أصول البنوك المقومة بالعملة الأجنبية، ما أدى إلى ارتفاع قيمتها بشكل كبير وزيادة العائد منها.
وأضاف أن ارتفاع أسعار الفائدة ، عزز إيرادات البنوك من التمويلات الممنوحة وأدوات الدين، رغم ارتفاع تكلفة الودائع.
وعن عام 2025، لفت شوقي إلى أن السوق يشهد أوضاعاً مغايرة، إذ لم تحدث عملية إعادة تقييم للأصول، بل تحسن الجنيه أمام الدولار بأكثر من 7- 8% مقارنة بالعام الماضي، ما يقلل القيمة الدفترية للأصول الأجنبية.
وفي المقابل، بدأت لجنة السياسة النقدية في خفض أسعار الفائدة، الأمر الذي يمنح البنوك مساحة أكبر للتوسع في الإقراض، وفقًا لما أضافه شوقي.
ورجح أن تواصل البنوك تحقيق نمو في الأرباح بنهاية 2025، ولكن بمعدلات طبيعية تتراوح بين 15 و20% سنوياً، أي بمعدل 3-4% لكل ربع سنوي، وهو معدل أبطأ من المستويات الاستثنائية التي سجلتها في 2024.
وتوقع ماجد فهمي، الخبير المصرفي، أن تسجل أرباح البنوك نموًا خلال 2025 بوتيرة أقل من العامين الماضيين.
وأوضح أن خفض سعر الفائدة المستمر خلال العام الحالي، له انعكاسات سريعة على الحسابات المدينة، بينما تظل الودائع حتى نهاية آجالها، وهو ما يجعل رفع الفائدة يعزز أرباح البنوك مباشرة، فيما يؤدي خفضها إلى تراجعها نسبيًا.
أضاف أن البنوك توجه جزءًا من استثماراتها في أذون الخزانة، ما يدعم أرباحها رغم خفض سعر “الكوريدور”، خاصة وسط استمرار ارتفاع أسعار الفائدة على أدوات الدين الحكومي.